رفع الطبيب عينه من الاوراق التى فى يده ونظر الى زميله
وهو يحرك رأسه وكتفيه مستعجباً
- انا لا افهم شيئاً على الاطلاق , كل المؤشرات الحيوية
والقراءات الكهربائية للمخ تشير الى انه سليم وطبيعى لكنه فقط نائم , بل ويحلم ,
الانشطة الكهربائية تشير انه فى مرحلة النوم ذات الاحلام , الغريب انه لا يخرج
ابداً من هذة الحالة ولا يستيقظ , لقد مر اكثر من 5 ايام , وفشلت كل محاولات
ايقاظه بازعاجه بكل الطرق او بالادوية
- يرد الطبيب الاخر : انا لم اسمع عن امر كهذا فى حياتى – لا اثر لحالات مشابهة
على الانترنت ايضاً , انا لا افهم شئ
- اقترح ان نعرضه على الاخصائيين ربما يتوصلوا لشئ
بعد اسبوعان يخرج اشرف ذو ال 26 عاماً على نقالة الى سيارة الاسعاف التى ستقله الى
المنزل وهو مازال نائماً هذا هو اسبوعه الثالث تقريباً فى نوم متواصل , يعتمد على
المحاليل ولكن كل جسده يعمل بكفاءه , كان يبدو وجهه نقياً مرتاحاً ساكناً كالاطفال
, لم يستطتع كبار الاطباء من مصر او خارجها فهم حالته او التوصل لحل , ووجدوا انه
لا فائدة من ابقاءه فى المستشفى , هو مجرد شخص نائم ويحلم منذ ثلاثة اسابيع .
فقرروا السماح لاهله باخراجه من المستشفى وارجاعه الى المنزل ومتابعه حالته
هاتفياً بعد تعليم اخوته وامه كيفية تغيير المحاليل له والعناية به
كانت عينيى اشرف تتحرك طوال الوقت اسفل جفونه , كانت معالم وجهه تتغير احياناً
يبدو على تعبرياته الانفعال , يعبس , يبتسم , تتسارع ضربات قلبه وتتباطئ احياناً
اخرى , كأى انسان يحلم اثناء نومه
قال احد الاطباء الاجانب لوالدته : ابنك ليس به علة , عقله وجسده سليمان تماماً ,
هو فقط اسير داخل حلم
تذكرت امه وقتها ...
شريف كان فتي كثير الاحلام , منذ صغره , هكذا ولِد , دائماً يحلم ويستيقظ ليحكى
للجميع ما يتذكره من احلامه , كانت احلامه فى الغالب جميلة بحق , دائماً كان يقول
هذا , انه يحلم اجمل الاحلام التى يمكن لبشر ان يحلموا بها , بل انه كان يحكى
دائماً انه يمكنه ان يتحكم فى احلامه احياناً , احداثها وافعاله داخل الحلم
بعد وفاة جده وهو طفل ظل يحلم لفترة طويلة كلما نام بجده المتوفى , فلم يصيبه
الحزن ابداً , كان يحكى لامه ما رأه , وكيف ان جده تعافى وصار نشيطاً , صحته جيده
كان يلعب ويلهو معه طوال الحلم واخبره انه يريد ان يشترى منزلاً هادئاً له حديقه ,
علمه ان يقرأ الجرائد وزرع فيه حب الاستماع لام كلثوم وعبد الحليم على الراديو
القديم الموضوع فى ركن غرفته
لم تكن حياة اشرف حياة جيدة من وجهة نظره
اذا صح هذا الوصف , كان وحيداً فى الجزء
الاكبر منها , تصادق وكثيرون لكنه ظل وحيداً , قلبه احب مرات ولكن كل هذة التجارب
باءت بالفشل , كان يكره المدينة ولم تمكنه الظروف من الهروب منها و العيش خارجها,
كان يكره الفقر والظلم ولم يمكنه فعل اى شئ حيال ذلك سوى الحزن , كان يكره سلبيات
مجتمعه , تقاليده الغبية واحكامه السخيفة , كان يكره الحرب , كان يحب الحب , كل
هذا كان كافياً ليجعله تعيس القلب برغم ضحكته التى نشرها فى كل مكان
الفتاة الاخيرة التى احبها بشده لم يستطع ان يتزوجها بسبب الضغوط المادية وبعض
الامور الاجتماعية الغبية ايضاً
كان فى ال 26 وقت اخبرته بانها ستتزوج , كان يعلم منذ البداية انها ربما لا تحركها
المشاعر مثله ولن تحبه مثلما يحبها لكنه لم يتخلى عن حبه لها لحظة , صمم على ذلك الحب غير المشروط وقرر انها يحبها
لا بشروطه ولكن يحبها بأى حال من الاحوال , كان يقول لصديقه : " لانى احبها
سارضى بأى حب منها , حتى ولو كان هذا الحب لمجرد كونى زوجاً مناسباً محتملاً ,
ساعلمها الحب فتعلمنى الحياة " كانت مفعمة بالحياة حقاً
كان يضع قلبه على المحك مقرراً ان يحبها فى كل الاحوال , حياً على امل , فقط امل
انهما قد يجمعهما الحب فى يوم من الايام بأى شكل من الاشكال او بأى طريقة حتى ولو
كانت هى الزواج التقليدى , صار هذا الامل هو هدفاً له لكثير من الوقت , لكن ضياع هذا الامل بخطبتها لاخر كان له تأثير
صادم ومدمر له للغاية
حزن كثيراً , صمت طويلاً , لم يرغب فى الطعام ولم ير الشمس لايام , كان ينام
كثيراً فى هذة الفترة ويستيقظ ليظل صامتاً مطرقاً طوال اليوم
فى اليوم المنكوب ابتسم لاخته الحنون التى اشفقت عليه وطلبته منه ان يأكل , اكل
قليلاً وقبَّل جبهتها ودخل الى غرفته
لينام , لم يستقظ منذ ذلك الوقت , عيناه تطارد شيئاً ما اسفل جفونه , باسماً معظم
الوقت يتحرك قليلاً
- -
كانت الحياة رائعة , كان يعمل بجِد , كوّن نفسه مادياً , اصبح المجتمع بلا فقراء
او طبقات او ظلم او جرائم ولا حروب فى العالم . فقط حب وحب فى كل مكان
صارحها بحبه لها الذى لم يفارق قلبه ابداً . وتزوجاً , سافرا فى شهر العسل الى تلك
البلد الجميل التى حلما سويا بالسفر اليها . على الشاطئ الهادى هناك ظل يقول لها
" بحبك " كل 10 دقائق حتى ملّت الكلمة ودعته ان يخرس ضاحكةَ وهو يكرر
الكلمة ايضاً , لم يوافق ان يعلمها السباحة الا بعد ان نفذت طلبه بان صرخت وهى فى
البحر بصوت عالى سمعه كل الناس هناك " بحبك " , علّمها الحب , ومنحته
الحياة فاكتمل ضلعه المفقود , كان جده حياً وكان يزوره كل يومان فى منزله ذى
الحديقة , لم يكن والده مصاباً بالسرطان , كان له الكثير من الاصدقاء , عاش هو
وزوجته فى مدينة جنوبية صغيرة بجوار النيل فى منزل جميل .. اقتنى كلباً لطيفاً
- -
عاش حتى ال 88 , توفى والده ووالدته واصاب العجز اخوته , اودعوه احد دور الرعاية
ليهتموا بتغيير المحاليل له والاعتناء به وتهذيب لحيته التى ضربها الشيب والتى لم
يعد احد يحلقها له منذ ان بلغ ال 30 اثناء نومه
كانت ما تزال البسمه على وجهه فبدأ بلحيته البيضاء كحكيم عجوز نام بعد ان وصل الى الغاية
العظمى , كان كل شئ جميلاً وعلى ما يرام داخل رأسه , داخل حلمه الطويل هذا كان كل
شيئاً رائعاً , لم يتحمل جسده الهزيل ان تنسى الممرضة وضع المحاليل له لمدة ثلاثة
ايام متتالية فمات على صدر زوجته وهو يبتسم ويحتضنها داخل رأسه ايضاً
فادى فتحى
4-11-2012
8:00pm